في عالم باتت فيه الأسماء تُصنع بلمسة على الشاشة، وتُنسى بضغطة زر، يبقى اسمٌ واحد يرفرف كالشبح فوق ساحة المال والاقتصاد: ساتوشي ناكاموتو.
من هو هذا الرجل – أو هذه المرأة – أو ربما هذا الكيان الجماعي؟ من يقف خلف ولادة العملة التي كسرت كل المعايير وفتحت أبوابًا جديدة لفهم الثروة والسلطة والحرية؟
في السابع من أبريل عام ٢٠٢٢، وقف الملياردير الأمريكي بيتر ثيل – وهو من مؤسسي “باي بال”، وواحد من وجوه وادي السيليكون الكبار – أمام جمهور مؤتمر البيتكوين السنوي في ميامي، وقال جملته الشهيرة:
نحن لا نعرف من هو ساتوشي.
الجمهور صفّق بحرارة. لكن خلف التصفيق، سؤال لا يُجيب عليه أحد:
هل ناكاموتو موجود فعلًا؟
من الظلال إلى الثورة
الكاتب بنجامين والاس في كتابه “السيد ناكاموتو الغامض: خمسة عشر عامًا في محاولة كشف العبقري السري”، يروي القصة كما يرويها روائي بوليسي عن قاتل محترف اختفى بعد أن أنجز جريمته… أو معجزته.
في عام ٢٠٠٨، وسط الأزمة المالية العالمية، وفي وقت كانت بنوك كبرى تنهار ومؤسسات مالية تتهاوى، ظهر ناكاموتو برسالة إلكترونية ينشر فيها ورقة علمية بعنوان:
بيتكوين: نظام نقدي إلكتروني من نظير إلى نظير.
لم تكن الورقة طويلة، تسع صفحات فقط. لكنها كانت كافية لتعلن بداية فصل جديد في تاريخ المال، فصل يُخرج السلطة النقدية من يد الحكومات والبنوك، ويمنحها للفرد، للناس، للهواء المفتوح على الشبكة.
قال ناكاموتو: “
لن نحتاج بعد الآن إلى وسيط. لا بنك، لا دولة، لا حاكم.
في البداية، لم يهتم أحد. كان سعر البيتكوين أقل من جزء من السنت. حرفيًا، يمكنك شراء آلاف الوحدات منه مقابل دولار واحد.
لكن بعد ١٦ عامًا، أصبح البيتكوين أصلًا عالميًا تفوق قيمته مئات المليارات من الدولارات. وارتبط اسمه بالحرية المالية، وبالتمرد على الأنظمة النقدية.
اختفاء بلا وداع
في ربيع ٢٠١١، وبعد أن أصبحت شبكة البيتكوين مستقرة وقابلة للتوسع، انسحب ناكاموتو من المشهد. توقف عن الرد على الرسائل، اختفت بصماته، ولم يُعرف له أثر.
ولم يُعلن يومًا لماذا.
حتى اللحظة، يُعتقد أنه يمتلك أكثر من مليون بيتكوين – ما يعادل أكثر من ١٠٠ مليار دولار – لكن لم يُصرّف منها شيئًا. وكأنه لا يريد المال… أو لا يستطيع الوصول إليه.
لماذا يختبئ؟ ولماذا لا يظهر؟
في عالمنا العربي، لا يمكن أن نمر على فكرة مثل هذه دون أن نتساءل: لو أن رجلًا فعل هذا هنا، هل كانت لتُترك هويته طي الكتمان؟ ألم يكن سيُستدعى للتحقيق؟ أو يُعرض على الشاشات كمبتكر؟ أو يُراقب على الأقل؟
لكن ناكاموتو كان شيئًا آخر. لا صورة له، لا مقابلة، لا توقيع. فقط كود برمجي، ورسائل إلكترونية، ثم صمت تام.
بعضهم قال إنه لا يريد الشهرة. البعض الآخر ظن أنه يخشى الملاحقة القانونية. وآخرون قالوا: هو عبقري اختار أن يرحل كي لا تفسده السلطة.
وهنا تكمن عبقرية القصة:
أن تُنشئ نظامًا ماليًا لا يحتاج إلى صاحبه. أن تُطلق فكرة تستمر حتى بعد غيابك.
النظريات تتكاثر… ولا أحد يعرف
البعض قال إن ناكاموتو قد يكون الكاتب الأمريكي نيل ستيفنسون، صاحب رواية تنبأت بالعملات الرقمية.
آخرون اتهموا جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس.
بل هناك من قال إنه إيلون ماسك نفسه، بناءً على تشابه في المفردات.
لكن كل هؤلاء أنكروا. حتى هال فيني، أحد أوائل مستخدمي البيتكوين، والذي توفي بسبب مرض عضال، قال:
أتمنى لو كنت أنا. لكني لست.
بل إن البعض لاحظ أن الاسم نفسه قد يكون توليفة من أسماء شركات يابانية مثل:
SAmsung، TOSHIba، NAKAmichi، MOTOrola.
اللامركزية الكاملة… تتطلب غياب القائد
في مؤتمر البيتكوين الأول في نيويورك عام ٢٠١١، طُرح سؤال بسيط على الحضور:
“هل ناكاموتو بيننا؟”
لكن لا أحد أجاب.
وكانت القمصان تُباع هناك بشعار: “أنا ساتوشي.”
والفكرة كانت واضحة: لا أحد يمتلك البيتكوين، ولا أحد يُجسد فكرته. وهذا ما جعله يقاوم، ويصمد، ويكبر.
كتب والاس:
“البيتكوين احتاج إلى ولادة بلا أب. بلا زعيم. بلا وجه يمكن أن تهاجمه الأنظمة، أو يختلف حوله الناس.”
البيتكوينر يتحدث: ما الذي يعنيه هذا لنا؟
في منطقتنا العربية، حيث المركزية لا تزال القاعدة، والقرار يأتي من الأعلى، وقوانين المال تُصاغ في غرف مغلقة، تبدو قصة ساتوشي ناكاموتو أكثر من مجرد حكاية تقنية.
إنها رسالة. دعوة. درس.
إنك تستطيع أن تُطلق فكرة وتتركها تنمو، وتعيش، وتتوسّع دون أن تعود لتقودها.
أن تمنح الناس نظامًا لا يُراقبهم، ولا يوقف حساباتهم، ولا يفرض عليهم رسومًا أو ضرائب خفية.
أن تقول للعالم: هذه فكرتي… خذوها، وحرّكوها كما تشاؤون.
البيتكوين ليس مجرد عملة رقمية. إنه تمرد ناعم. مقاومة صامتة.
وسواء كان ناكاموتو رجلًا، أو امرأة، أو مجموعة… فإن ما فعله سيبقى محفورًا في التاريخ، كأحد أكثر الأفعال ثورية في القرن الحادي والعشرين.
فليكن اسمه غائبًا، لكن أثره حاضرًا.